فصل: الأمير شيخ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم في رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور خرج قضاة مصر الذين كانوا في صحبة الملك الناصر من دمشق عائدين إلى الديار المصرية وهم وكثير من الأثقال ونزلوا بداريا خارج دمشق‏.‏

ثم طلبت القضاة من يومهم فعادوا إلى مدينة دمشق لعقد قران ابنة السلطان على الأمير بكتمر جلق نائب الشام‏.‏

ثم في يوم الخميس سابع عشره حمل بكتمر جلق المهر وزفته المغاني حتى دخل دار السعادة إلى السلطان ثم عقد العقد بحضرة السلطان والأمراء والقضاة فتولى العقد السلطان بنفسه وقبله عن الأمير بكتمر جلق الوالد‏.‏

ثم خرجت القضاة من الغد في يوم الجمعة سائرين إلى مصر ثم صلى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الأموي وخرج منه وسار من دمشق بعساكره يريد القاهرة ونزل بالكسوة‏.‏

وخلع على الأمير نكباي باستقراره حاجب حجاب دمشق عوضًا عن عمر بن الهيدباني‏.‏

ثم في تاسع عشره أخلع السلطان على الأمير سودون الجلب باستقراره في نيابة الكرك‏.‏

ثم سار السلطان في ليلة الأحد من الكسوة‏.‏

واستولى بكتمر جلق على دمشق ونزل بدار السعادة‏.‏

وسار السلطان حتى نزل الرملة في رابع عشرينه وركب منها وسار مخفًا يريد زيارة القدس وبعث الأثقال إلى غزة ودخل القدس وزاره وتصدق بخمسة آلاف دينار وعشرين ألف درهم فضة وبات ليلته في القدس‏.‏

وسار من الغد إلى الخليل عليه السلام فبات به ثم توجه إلى غزة فدخلها في سابر عشرينه وأقام بها إلى ثاني جمادى الأولى فرحل منها‏.‏

وأما دمشق فإنه قدم إليها في ثالث جمادى الأولى كتاب السلطان إلى أعيان أهل دمشق بأنه قد ولى الأمير شيخًا نيابة طرابلس فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه‏.‏

وسببه أن الأمير شيخًا كان قصد دخول دمشق وكتب إلى الأمير بكتمر جلق يستأذنه في الحضور إليها ليقضي بها أشغاله ثم يرحل إلى طرابلس‏.‏

وكان الذي قصده الأمير شيخ على حقيقته وليس له غرض في أخذ دمشق فلم يأذن له بكتمر في الحضور إليها وخاشنه بالكلام‏.‏

فقال شيخ‏:‏ أنا أسير إلى جهة دمشق ولا أدخلها‏.‏

وسار حتى نزل شيخ في ليلة الجمعة عاشر جمادى الأولى على شقحب وكان الأمير بكتمر قد خرج بعساكر دمشق إلى لقائه ونزل بقبة يلبغا ثم ركب ليلًا يريد كبس الأمير شيخ فصدف كشافته عند خان ابن ذي النون فواقعهم‏.‏

فبلغ ذلك شيخًا فركب وأتى بكتمر وصدمه بمن معه صدمة كسره فيها وانهزم بكتمر بمن معه إلى جهة صفد ومعه قريب من مائة فارس وعدة من الأمراء وتخلف عنه جميع عساكر دمشق‏.‏

وسار شيخ حتى أتى دمشق بكرة يوم الجمعة ونزل بدار السعادة من غير ممانع وقد تلقاه أعيان الدماشقة فاعتذر إليهم وحلف لهم أنه لم يقصد سوى النزول بالميدان خارج دمشق ليقضي أشغاله وأنه لم يكن له استعداد لقتال وأنه كتب يستأذن الأمير بكتمر في ذلك فأبى ثم خرج وقاتله فانهزم‏.‏

وسأل شيخ جماعةً من أعيان دمشق أن يكتبوا للسلطان بذلك بعد أن كتب بهذا جميعه محضرًا وأراد إرساله إلى السلطان فلم يجسر أحد من الشاميين أن يمضي به إلى السلطان الملك الناصر خوفًا من سطوته‏.‏

ثم في ثالث عشره ولى الأمير شيخ شهاب الدين أحمد بن الشهيد نظر جيش دمشق وولى شمس الدين محمد بن التباني نظر الجامع الأموي وولى تغري برمش أستاداره نيابة بعلبك وولى إياسًا الكركي نيابة القدس وولى منكلي بغا كاشف القبلية وولى الشريف محمد بن دغا محتسب دمشق وأما السلطان فإنه لما خرج من مدينة غزة سار منها حتى نزل قرية غيتا خارج مدينة بلبيس في يوم الخميس تاسع جمادى الأولى‏.‏

ولما استقر السلطان في المنزلة المذكورة وقد خرج الناس لتلقي العسكر وخرج غالب أقارب جمال الدين الأستادار إلى تلقيه وفرشت له الدور بالقاهرة فركب الوالد بقماش جلوسه من مخيمه من غير أن يجتمع بالسلطان لاتفاق كان بينهما من دمشق في القبض على جمال الدين المذكور لأسباب نذكرها‏.‏

وكان الوالد يكره جمال الدين بالطبع على أنه باشر أيام عظمته أستادارية الوالد مضافًا إلى أستادارية السلطان وصار يجلس مع مباشريه وينفذ الأمور ومع ذلك لم يقبل عليه الوالد لقلة دينه وسفكه الدماء وعظم ظلمه‏.‏

وسار الوالد من مخيمه ومماليكه مشاة حوله يقصد وطاق جمال الدين‏.‏

حدثني القاضي شرف الدين أبو بكر بن العجمي موقع جمال الدين وزوج بنت أخيه قال‏:‏ كنت جالسًا بين يدي الأمير جمال الدين الأستادار في وطاقه وقد حضر إلى تلقيه غالب أقاربه فقيل له‏:‏ إن الأمير الكبير تغري بردي قادم إلى جهتك‏.‏

فلما سمع جمال الدين ذلك تغير لونه وقال‏:‏ هذا من دون عسكر السلطان لا يعودني في مرضي‏!‏ فما مجيئه في هذا الوقت لخير‏.‏

ونهض من وقته قبل أن نرد عليه الجواب وخرج من خامه ماشيًا إلى جهة الوالد خطوات كثيرة غالبها هرولة حتى لقي الوالد - وهو راكب - فقبل رجله في الركاب فمسكه الوالد من رأسه ثم أمر به فقيد في الحال وقال لمن تولى تقييده‏:‏ هذا الأمير جمال الدين عظيم الدولة‏!‏ أبصر له قيدًا ثقيلًا يصلح له فبكى جمال الدين ودخل تحت ذيله‏.‏

ثم أمر الوالد بالقبض على جميع أقاربه وحواشيه فقبض على ابنه أحمد وعلى ابني أخته أحمد وحمزة‏.‏

وكان الوالد ندب جماعة من مماليكه إلى القاهرة للحوطة على دور جمال الدين وأقاربه ثم أخذهم الوالد وأركبهم بالقيود وسار بهم إلى جهة الديار المصرية‏.‏

كل ذلك والسلطان لا يعلم بما وقع إلا بعد سير الوالد إلى جهة القاهرة‏.‏

وأخذ جمال الدين في طريقه يترفق للوالد ويعده ويسأله القيام في أمره كل ذلك والوالد لا يعتبه إلا على قتل أستاداره عماد الدين إسماعيل وأخذ ماله‏.‏

وكان خبر إسماعيل مع جمال الدين المذكور أن إسماعيل كان أستادار الوالد وكان له عز وثروة ومعرفة ورئاسة قبل أن يترأس جمال الدين فكان يستخف بجمال الدين ويطلق لسانه في حقه وجمال الدين لا يصل إليه من انتمائه للوالد‏.‏

فأخذ جمال الدين يسعى في أستادارية الوالد مدة طويلة حتى ولاه الوالد أستاداريته بعد أن بذل جمال الدين مالًا كثيرًا للوالد ولحواشيه‏.‏

واستأذن الوالد أن يقبض على عماد الدين إسماعيل ويؤدبه ويظهر للوالد في جهته جملة كبيرة من الأموال وفي ظن الوالد أنه يوبخه بالكلام أو يهينه ببعض الضرب ثم يطلقه فأذن له الوالد في ذلك‏.‏

وكان عماد الدين إسماعيل المذكور مسافرًا فلما قدم من السفر ركب وأتى إلى الوالد - وكان الوالد تغير عليه قبل ذلك لسبب من الأسباب - فقبل يد الوالد وخرج من عنده فصدف جمال الدين عند مدرسة سودون من زادة فقال له الأمير جمال الدين‏:‏ بسم الله يا أمير عماد الدين أين الهدية فعاد معه عماد الدين وحال وصوله إلى بيته أجرى عليه العقوية وأخذ منه أربعين ألف دينار ثم ذبحه من ليلته‏.‏

فلما سمع الوالد بقتلته من الغد كاد عقله أن يذهب وأراد الركوب في الحال والطلوع إلى السلطان فقال له حواشيه وخواصه‏:‏ يا خوند قد فات الأمر وما عسى أن يصنع فيه الملك الناصر مع حصوصيته عنده‏.‏

فسكت الوالد على دغل وأخذ في توغير خاطر السلطان عليه ويعرف السلطان بأفعال جمال الدين‏.‏

ولا زال به حتى تغير عليه السلطان مع أمور أخر وقعت من جمال الدين فكان ذلك أكبر أسباب ذهاب جمال الدين وأراح الله المسلمين منه‏.‏

ثم ركب السلطان من غيتا وسار حتى نزل بالخانقاه ثم سار حتى طلع إلى قلعة الجبل في يوم السبت حادى عشر جمادى الأولى المذكور بعد أن زينت له القاهرة ومصر وخرج الناس لتلقيه فكان لدخوله يوم عظيم وحمل الوالد على رأسه القبة والطير‏.‏

ولما استقر السلطان بقلعة الجبل - وقد حبس بها جمال الدين - ثم رسم السلطان للوالد أن يتسلم جمال الدين ويعاقبه فقال الوالد‏:‏ يا مولانا السلطان‏!‏ جمال الدين كلب لا يتسلمه إلا كلب مثله فقال تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم‏:‏ يا خوند‏!‏ أنا ذلك الكلب فسلمه السلطان له‏.‏

وأما أسباب القبض على جمال الدين فكثيرة منها‏:‏ ما فعله ليلة بيسان لما استشاره السلطان هو وفتح الله وفر الأمراء‏.‏

وكان جمال الدين لما خرج من عند السلطان أرسل إلى الأمراء بذلك وطلب جمال الدين صيرفيه عبد الرحمن وأمره فصر للأمير شيخ المحمودي نائب الشام بخمسة آلاف دينار يرسلها له صحبة الأمراء المتوجهين في الليل إليه وإلى تمراز بثلاثة آلاف دينار وهو رأس الأمراء الذين عزموا على الفرار وعلى رفقته‏:‏ سودون بقجة وعلان وإينال لكل واحد بألفي دينار وبعث بالمبلغ إليهم وأعلمهم بما عزم عليه السلطان من القبض عليهم فكان هذا من أكبر الأسباب في هلاك جمال الدين ولم يعلم السلطان ذلك إلا بعد أيام‏.‏

ومنها أن السلطان الملك الناصر لم يكن معه في هذه السفرة من الذهب إلا النزر اليسير فسأل جمال الدين في مبلغ فقال جمال الدين‏:‏ ما معي إلا مبلغ هين‏.‏

فندب السلطان فتح الله كاتب السر في الفحص عن ذلك فقال له فتح الله‏:‏ قد رافق جمال الدين في هذه السفرة تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم كاتب المماليك وأخوه مجد الدين عبد الغني مستوفي الديوان المفرد فاسألهما وتلطف بهما تعلم ما مع جمال الدين من الذهب‏.‏

فطلبهما السلطان وفعل ذلك فأعلماه بليلة بيسان وما فعله جمال الدين من إرسال الذهب وإعلام الأمراء بقصد السلطان حتى فروا ولحقوا بالأمير شيخ فقال السلطان‏:‏ أمن أين لكم هذا الخبر فقالا‏:‏ صيرفيه عبد الرحمن ينزل عندنا وعند تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ناظر ديوان المفرد وهو الحاكي فصدق السلطان مقالتهما وأسرها في نفسه واستشار الوالد في القبض على جمال الدين فقال له الوالد‏:‏ المصلحة تركه حتى يعود إلى جهة القاهرة ويقبض عليه وعلى جميع أقاربه حتى لا يفوت السلطان منهم أحد وتكون الحوطة على الجميع معًا فأعجب السلطان ذلك وسكت عن قبضه بالديار الشامية‏.‏

ثم إن تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم لا زال حتى أوصل عبد الرحمن الصيرفي إلى السلطان وحكى له الواقعة من لفظه في مجلس شرابه وشرب معه عبد الرحمن في تلك الليلة‏.‏

ومنها أن القاضي محيي الدين أحمد المدني كاتب سر دمشق لقي ابن هيازع عند باب الفراديس بدمشق فأعلمه ابن هيازع أن أصحابه وجدوا عند مدينة زرع ساعيًا معه كتب فقبضوا عليه وأخذوا منه الكتب وجاؤوا بها إليه‏.‏

وكان محيي الدين المذكور معزولًا عن كتابة سر دمشق من مدة فأخذ الكتب ولم يدر ما فيها وسلمها لفتح الله فأخذ فتح الله الكتب ومحيي الدين إلى السلطان‏.‏

وفتحت الكتب وقرئت بحضرة السلطان فإذا هي من جمال الدين إلى الأمير شيخ فزاد السلطان غضبًا على غضبه وأخفى ذلك كفه عن جمال الدين لأمر سبق‏.‏

وأخذ السلطان يغالط جمال الدين والتغيير يظهر من وجهه لشبيبته وشدة حقده عليه فتقهقر جمال الدين قليلًا وأخذ يغالط السلطان ويسأله يسلم له ابن الهيصم وابن أبي شاكر وألح في ذلك والسلطان لا يوافقه ويعده ويمنيه إلى أن نزل السلطان بمدينة غزة وأظهر لجمال الدين الجفاء وأراد القبض عليه فلم يمكنه الوالد فتركه السلطان إلى أن نزل بلبيس ووقع ما حكيناه‏.‏

وأما أصل جمال الدين ونسبه فإنه يوسف بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري الحلبي البجاسي‏.‏

كان أبوه يتزيا بزي الفقهاء وكان يخطب بالبيرة فتزوج بأخت شمس الدين عبد الله بن سهلول وقيل سحلول المعروف بوزير حلب فولدت له يوسف هذا ولقب بجمال الدين وكنى بأبي المحاسن هو وأخوته‏.‏

ونشأ جمال الدين يوسف المذكور بالبيرة‏.‏

ثم قدم البلاد الشامية على فاقة عظيمة وتزيا بزي الجند وخدم بلاصيًا عند الشب علي كاشف بر دمشق ثم عند غيره من الكشاف‏.‏

وطال خموله وخالط الفقر ألوانًا إلى أن خدم عند الأمير بجاس - وهو أمير طب لخاناه - بعد أمور يطول شرحها‏.‏

ثم جعله بجاس أستاداره وتمول وعرف عند الناس بجمال الدين أستادار بجاس وكثر ماله وسكن بالقصر بين القصرين واتهم أنه وجد به من خبايا الفاطميين خبيئة‏.‏

ثم خدم بعد بجاس عند جماعة من الأمراء إلى أن عد من الأعيان‏.‏

وصحب سعد الدين إبراهيم بن غراب فنوه ابن غراب بذكره إلى أن طلب أن يلي الوزر فامتنع من ذلك وطلب الأستادارية فخلع السلطان عليه باستقراره أستادارًا عوضًا عن سعد الدين بن غراب المذكور بحكم توجه ابن غراب مع يشبك الدوادار إلى البلاد الشامية وذلك في رابع شهر رجب سنة سبع وثمانمائة ومن يومئذ أخذ أمره يظهر حتى صار حاكم الدولة ومدبرها بعد أن قتل خلائق من الأعيان لا تدخل تحت حصر من كل طائفة بالعقوبة والذبح والخنق وأنواع ذلك‏.‏

قلت‏:‏ لاجرم أن الله تعالى قاصصه في الدنيا ببعض ما فعله فعوقب أيامًا بالكسارات وأنواع العذاب ثم ذبح في ليلة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة وأراح الله الناس من سوء فعله وقبح منظره - انتهى‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى المذكور خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم ناظر الإسطبل وكاتب المماليك السلطانية باستقراره أستادارًا عوضًا عن جمال الدين يوسف البيري - بحكم القبض عليه - وترك لبس المباشرين ولبس الكلفتاة وتقلد بالسيف وتزيا بزي الأمراء وخلع على أخيه مجد الدين عبد الغني بن الهيصم مستوفي ديوان المفرد واستقر في نظر الخاص وخلع على سعد الدين إبراهيم بن البشيري ناظر الدولة واستقر في الوزارة - وكل هذه الوظائف كانت مع جمال الدين الأستادار - وخلع على تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر واستقر ناظر ديوان المفرد وأضيف إليه أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانية عوضًا عن أحمد ابن أخت جمال الدين وخلع على تاج الدين فضل الله بن الرملي واستقر ناظر الدولة وخلع على حسام الدين حسين الأحول - عدو جمال الدين - واستقر أمير جاندار‏.‏

ثم قدم الخبر بأخذ شيخ دمشق وفرار بكتمر جلق إلى صفد‏.‏

وأرسل الأمير شيخ محضرًا يتضمن أنه كان يريد التوجه إلى طرابلس فلما وصل شقحب قصده بكتمر جلق وقاتله فركب ودفع عن نفسه وشهد له في المحضر جماعة كبيرة من أهل دمشق وغيرها‏.‏

وكان الأمر كما قاله شيخ - حسبما ذكرناه قبل تاريخه وسكت الوالد واحتار في نفسه بين بكتمر وشيخ فإنه كان يميل إلى كل منهما‏.‏

ثم قدم في أثناء ذلك الأمير بكتمر جلق إلى القاهرة في سابع عشرين جمادى الأولى بعد دخول السلطان إلى القاهرة بنحو ستة عشر يومًا وقدم صحبة بكتمر المذكور الأمير بردبك نائب حماة والأمير نكباي حاجب دمشق والأمير ألطنبغا العثماني والأمير يشبك الموساوي الأفقم نائب غزة فخرج السلطان إلى لقائهم ودخل بهم من باب النصر وشق القاهرة وخرج من باب زويلة ونزل بدار الأمير طوخ - أمير مجلس - يعوده في مرضه ثم طلع إلى القلعة‏.‏

ولم يعتب السلطان على الوالد في أمر شيخ ولا فاتحه الوالد في أمره حتى قال الوالد لبعض مماليكه‏:‏ كأن السلطان عذر الأمير شيخًا فيما وقع منه - والله أعلم‏.‏

وفي هذه الأيام تناولت جمال الدين وحواشيه العقوبات وأخذوا له عدة ذخائر من الأموال وما استهل جمادى الآخرة حتى كان مجموع ما أخذ منه من الذهب العين المصرفي تسعمائة ألف دينار وأربعة وستين ألف دينار وهو إلى الآن تحت العقوبة والمصادرة‏.‏

ثم ورد الخبر على السلطان من البلاد الشامية من دمرداش نائب حلب بأن الأمير نوروزًا الحافظي قدم إلى حلب ومعه يشبك بن أزدمر وغيره وأن الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب تلقاه وأكرمه وحلفه للسلطان ثم كتب يعلم السلطان بذلك ويسأله أن يعيده إلى نيابة دمشق وأن يولي ابن أزدمر نيابة طرابلس وأن يولي ابن أخيه تغري بردي المعروف بسيدي الصغير نيابة حماة فأجاب السلطان إلى ذلك وأرسل الأمير مقبلًا الرومي في البحر إلى نوروز المذكور وعلى يده التقليد والتشريف بنيابة الشام‏.‏

فوصل إليه مقبل الرومي المذكور في رابع شعبان فلبس نوروز التشريف وقبل الأرض وجدد اليمين للسلطان بالطاعة على كل حال وعدم المخالفة‏.‏

ولما بلغ شيخًا ذلك فر منه جماعة من الأمراء وأتوا إلى الأمير نوروز منهم‏:‏ تمربغا العلائي المشطوب وجانم من حسن شاه نائب حماة وسودون الجلب وجانبك القرمي وبردبك حاجب حلب‏.‏

فلما وقع ذلك أرسل الأمير شيخ إلى السلطان الملك الناصر إمام مسجد الصخرة بالقدس وجنديًا آخر بكتابه فقدما إلى القاهرة في ثاني جمادى الآخرة المذكور وعلى يدهما أيضًا محضر مكتوب فغضب السلطان غضبًا عظيمًا ووسط الجندي وضرب إمام الصخرة ضربًا مبرحًا وسجنه بخزانة شمائل‏.‏

ثم من الغد أنزل جمال الدين وابنه أحمد على قفصي حمال إلى بيت تاج الدين بن الهيصم‏.‏

ثم قبض السلطان على الأمير بلاط أحد مقدمي الألوف وعلى الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب وقيدهما وأرسلهما إلى سجن الإسكندرية‏.‏

ثم في حادي عشر جمادى الآخرة نقل جمال الدين الأستادار - في قفص حمال أيضًا - من بيت ابن الهيصم بعد ما قاسى محنًا وشدائد إلى بيت حسام الدين الأحول فتنوع حسام الدين في عقوبته أنواعًا لما كان في نفسه منه وأخذ في استصفاء أمواله فاستحثه القوم في قتله خشية أن يحدث في أمره حادث فقتله خنقًا ثم حز رأسه من الغد وحمله إلى السلطان حتى رآه ثم أعاده فدفن مع جثته بتربته بالصحراء‏.‏

وقد ذكرنا تاريخ موته عند القبض عليه‏.‏

ثم أصبح السلطان خلع على الأمير يلبغا الناصري باستقراره حاجب الحجاب - بالديار المصرية - بعد مسك كزل العجمي‏.‏

ثم ورد الخبر بأن الأمير شيخًا توجه لقتال نوروز بحماة فتوجه وحصره بها وأن الأمير يشبك الموساوي نائب غزة كان بينه وبين سودون المحمدي وعلان واقعة قتل فيها جماعة وفر يشبك الموساوي إلى جهة الديار المصرية وأن علان جرح في وجهه فحمل إلى الرملة فمات بها‏.‏

قلت‏:‏ وعلان هذا هو خلاف علان جلق نائب حماة وحلب - الذي قتله جكم مع طولو نائب صفد في سنة ثمان ثمانمائة - حسبما تقدم ذكره وأن سودون المحمدي بعث يسأل شيخًا في نيابة صفد فأجابه إلى ذلك كل هذا ورد على السلطان في يوم واحد‏.‏

ولما طال حصار شيخ لنوروز على حماة خرج دمرداش نائب حلب وقدم إلى حماة - نجدة لنوروز - ومعه عساكر حلب‏.‏

فلما بلغ شيخًا قدوم دمرداش بادر بأن ركب وترك وطاقه وأثقاله وتوجه إلى ناحية العربان فركب دمرداش بكرة يوم الأحد وأخذ وطاق شيخ واستولى عليه فعاد شيخ وتقاتلا بمن معهما قتالًا شديدًا قتل فيه جماعة كبيرة منهم‏:‏ بايزيد - من إخوة نوروز الحافظي - وأسر عدة كبيرة من أصحاب دمرداش منهم‏:‏ الأمير محمد بن قطبكي كبير التركمان الأوشرية وفارس أمير آخور دمرداش واستولى الأمير شيخ على طبلخاناة الأمير ثم إن الأمير شيخًا بعد مدة أرسل يخادع السلطان بكتاب يسترضيه ويقول فيه‏:‏ إنه باق على طاعة السلطان وحكى ما وقع له مع الأمير بكتمر جلق نائب الشام ثم ما وقع له مع الأمير نوروز ثم مع الأمير دمرداش وأن كل ذلك ليس بإرادته ولا عن قصده غير أنه يدافع عن نفسه خوفًا من الهلاك وأنه تاب وأناب ورجع إلى طاعة السلطان‏.‏

وأرسل أيضًا للوالد بكتاب مثل ذلك فلم يتكلم الوالد في حقه بكلمة‏.‏

ثم أخذ شيخ يقول عن نوروز أشياء ويغري السلطان به من ذلك أنه يقول‏:‏ إن نوروزًا يريد الملك لنفسه وهو حريص على ذلك من أيام السلطان السعيد الشهيد الملك الظاهر برقوق وأنه لا يطيع أبدًا وأنه هو لا يريد إلا الانتماء إلى السلطان فقط ورغبتة في عمل مصالح العباد والبلاد‏.‏

ثم كرر السؤال في العفو والصفح عنه في هذه المرة فلم يمش ذلك على الملك الناصر ولم يلتفت إلى كتابه‏.‏

وشرع السلطان في التنزه وأكثر من الركوب إلى بر الجيزة للصيد في كل قليل ووقع منه ذلك في الشهر غير مرة‏.‏

ولما عاد في بعض ركوبه في يوم الخميس ثالث عشرين شوال من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة المذكورة ووصل قريبًا من قناطر السباع عند الميدان الكبير أمر السلطان بالقبض على الأمير قردم الخازندار وعلى الأمير إينال المحمدي الساقي - المعروف بضضع - أمير سلاح فقبض في الحال على قردم وأما إينال ضضع المذكور فإنه شهر سيفه وساق فرسه ومضى فلم يلحقه غير الأمير قجق الشعباني فأدركه وضربه بالسيف على يده ضربةً جرحته جرحًا بالغًا ثم فاته ولم يقدر عليه‏.‏

وطلع السلطان القلعة كل ذلك وهو لا يملك نفسه على فرسه من شدة السكر‏.‏

ونودي في الحال بالقاهرة على الأمير إينال المحمدي المذكور فلم يظهر له خبر وقيد قردم وحمل إلى الإسكندرية من يومه‏.‏

وأما

 الأمير شيخ

فإنه كمل في هذا الشهر - وهو ذو الحجة من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة - سبعة أشهر وهو يقاتل نوروزًا ودمرداش ويحاصرهما بحماة ووقع بينهم في هذه المدة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها وقتل بينهم خلائق لا تحصى‏.‏

واشتد الأمر على نوروز وأصحابه بحماة وقلت عندهم الأزواد وقاسوا شدائد حتى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية وخاف نوروز إن ظفر به الملك الناصر لا يبقيه فاحتاج إلى الصلح‏.‏

وحلف كل من نوروز وشيخ لصاحبه واتفقا على أن نوروزًا يمسك دمرداش نائب حلب وأن شيخًا يمسك ابن أخيه قرقماس - المدعو سيدي الكبير - ففطن دمرداش بذلك وأرسل أعلم ابن أخيه قرقماس المذكور مع بعض الأعوان وهرب دمرداش من نوروز إلى العجل ابن نعير وفر ابن أخيه قرقماس من عند شيخ إلى أنطاكية‏.‏

والعجب أن قرقماس المذكور كان قد صار من حزب شيخ وترك عمه دمرداش وخالفه وصار يقاتل نوروزًا وعمه هذه المدة الطويلة وعمه دمرداش يرسل إليه في الكف عن قتالهم يدعوه إلى طاعة نوروز ويويخه بالكلام وهو لا يلتفت ولا يبرح عن الأمير شيخ‏.‏

حتى بلغه من عمه أن شيخًا يريد القبض عليه فعند ذلك تركه وهرب‏.‏

ثم إن - الأمير نوروزًا قصد حلب وأخذها واستولى عليها‏.‏

وهرب مقبل الرومي الذي كان حمل للأمير نوروز التقليد بنيابة الشام ولحق بالسلطان على غزة‏.‏

وأما السلطان الملك الناصر فإنه أخذ في التجهيز إلى السفر نحو البلاد الشامية وعظم الاهتمام في أول محرم سنة ثلاث عشرة وثمانمائة‏.‏

وخلع في عاشر المحرم على الأمير قراجا شاد الشراب خاناه باستقراره دوادارًا كبيرًا - دفعةً واحدة - بعد موت الأمير قجاجق وخلع على سودون الأشقر باستقراره شاد الشراب خاناه عوضًا عن قراجا المذكور‏.‏

ثم عمل السلطان في هذا اليوم عرس الأمير بكتمر جلق وزفت عليه ابنة السلطان الملك الناصر - التي كان عقد عليه عقدها بدمشق - وعمرها يوم ذلك نحو سبع سنين أو أقل وبنى عليها بكتمر في ليلة الجمعة حادي عشر المحرم المذكور‏.‏

وأخذ السلطان في أسباب السفر وتهيأ وأنفق على المماليك السلطانية وغيرهم من الأمراء ومن له عادة بالنفقة فأعطى لكل مملوك من المماليك السلطانية عشرين ألف درهم وحمل إلى الأمراء مقدمي الألوف لكل واحد ألفي دينار ما خلا الوالد وبكتمر فإنه حمل لكل منهما ثلاثة آلاف دينار وأعطى لكل أمير من أمراء الطبلخانات خمسمائة دينار ولأمراء العشرات ثلاثمائة دينار‏.‏

ثم خرج الأمير بكتمر جلق جاليشًا من القاهرة إلى الريدانية وصحبته عدة من أمراء الألوف وغيرهم في يوم الخميس ثالث عشرين صفر‏.‏

فالذي كان معه من أمراء الألوف هم‏:‏ يلبغا الناصري حاجب الحجاب وألطنبغا العثماني وطوغان الحسني رأس نوبة النوب وسنقر الرومي وخيربك وشاهين الأفرم وعدة كبيرة من أمراء الطبلخانات والعشرات وسار بكتمر بعد أيام قبل خروج السلطان‏.‏

ثم ركب السلطان من قلعة الجبل ببقية أمرائه وعساكره في يوم الاثنين رابع شهر ربيع الأول من سنة ثلاث عشرة المذكورة ونزل بالريدانية - وهذه تجريدة الملك الناصر السادسة إلى البلاد الشامية غير سفرة السعيدية - وخلع على أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير بنيابة الغيبة على عادته وأنه يستمر بسكنه بباب السلسلة وأنزل الأمير كمشبغا الجمالي بقلعة الجبل وجعل بظاهر القاهرة الأمير إينال الصصلاني الحاجب الثاني أحد مقدمي الألوف ومعه عدة أمراء أخر‏.‏

والذي كان بقي مع السلطان - من أمراء الألوف وخرجوا صحبته - الوالد رحمه الله وهو أتابك العساكر وقجق الشعباني وسودون الأسندمري وسودون من عبد الرحمن وسودون الأشقر شاد الشراب خاناه وكمشبغا الفيسي المعزول عن الأمير آخورية وبردبك الخازندار‏.‏

ثم ركب الملك الناصر من الغد في يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الأول من الريدانية إلى التربة التي أنشأها على قبر أبيه بالصحراء‏.‏

قلت‏:‏ وجماعة كبيرة من الناس يظنون أن هذه التربة العظيمة أنشأها الملك الظاهر برقوق قبل موته ويسمونها الظاهرية وليس هو كذلك وما عمرها إلا الملك الناصر فرج بعد موت أبيه بسنين وهي أحسن تربة بنيت بالصحراء - انتهى‏.‏

وصار الملك الناصر حتى نزل بالتربة المذكورة وقرر في مشيختها صدر الدين أحمد بن محمود العجمي ورتب عنده أربعين صوفيًا وأجرى عليهم الخبز واللحم الضأن للطبوخ في كل يوم وفرشت السجادة لصدر الدين المذكور بالمحراب وجلس عليها‏.‏

أخبرني العلامة علاء الدين علي القلقشندي قال‏:‏ حضرت جلوس صدر الدين المذكور في ذلك اليوم مع من حضر من الفقهاء وقد جلس السلطان بجانب صدر الدين في المحراب وعن يمينه الأمير تغري بردي من بشبغا الأتابك - يعني الوالد - وتحته بقية الأمراء وجلس على يسار السلطان الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقاعة وتحته المعتقد الكركي فجاء القضاة فلم يجسر قاضي القضاة جلال الدين البلقيني الشافعي أن يجلس عن يمين السلطان فوق الأمير الكبير وتوجه وجلس عن ميسرة السلطان تحت ابن زقاعة والكركي فإنهما كان لهما عادة بالجلوس فوق القضاة من أيام الملك الظاهر برقوق - انتهى‏.‏

قلت‏:‏ والعادة القديمة من أيام شيخون العمري إلى ذلك اليوم أنه لا يجلس أحد فوق الأمير الكبير من القضاة ولا غيرهم حتى ولا ابن السلطان غير صاحب مكة المشرفة مراعاةً لسلفه الطاهر - انتهى‏.‏

ثم ركب السلطان بأمرائه وخواصه وعاد إلى مخيمه بالريدانية وأقام به إلى أن رحل منه في يوم السبت تاسع شهر ربيع الأول المذكور يريد البلاد الشامية‏.‏

وأما الأمير شيخ فإنه لما بلغه خروج السلطان من الديار المصرية لم يثبت وداخله الخوف‏.‏

وخرج من دمشق في يوم الثلاثاء سادس عشرين شهر ربيع الأول المذكور بعساكره ومماليكه وتبعه الأمير جانم نائب حماة‏.‏

فدخل بكتمر جلق إلى الشام من الغد في يوم سابع عشرينه - على حين غفلة - حتى يطرق شيخًا نفاته شيخ بيوم واحد لكنه أدرك أعقابه وأخذ منهم جماعةً ونهب بعض أثقال شيخ‏.‏

ثم دخل السلطان الملك الناصر إلى دمشق بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس ثامن عشرينه وقد ركب من بحيرة طبرية في عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل ليكبس شيخًا ففاته بيسير‏.‏

وكان شيخ قد أتاه الخبر وهو جالس بدار السعادة من دمشق فركب من وقته وترك أصحابه ونجا بنفسه بقماش جلوسه فما وصل إلى سطح المزة إلا وبكتمر جلق داخل دمشق ومر شيخ على وجهه منفردًا عن أصحابه ومماليكه وحواشيه في أثره والجميع في أسوإ ما يكون من الأحوال‏.‏